العرض في الرئيسةفضاء حر

هل ستدعم السعودية تسوية يمنية شاملة..؟

يمنات

صلاح السقلدي

كانت وما زالت المملكة العربية السعودية، منذ قرابة خمسة عقود ونيف من الزمن، تعرف أن مليارات الريالات التي تضخها إلى اليمن لم يذهب منها ولو جزء يسير لبناء مؤسسات دولة مدنية حديثة، تُحكَم بالقانون وتعمل على رفع من مستوى حياة الناس التنموية والفكرية، وتمتلك قرارها السياسي السيادي المستقل دون التحكم به من خلف الحدود، ومحررة من هيمنة مراكز القوى القبلية والعسكرية والدينية التقليدية، وحتى التجارية التي ظهرت سطوتها على مجريات الأمور في السنوات الأخيرة.

فهذه المليارات كانت وما تزال تُرسل من خلال ما تسمى باللجنة الخاصة، التي شُكّلت مطلع ستينات القرن الماضي في ذروة الصراع السعودي – المصري في اليمن، كحكومة سوداء تدير اليمن من خلف الحجـب – بلباس انساني تنموي – عبر أذرعها الأخطبوطية المتعددة، وغيرها من مسارب الصرف وشراء ولاءات جهات ورموز قبلية ودينية ذات ميول فكرية وهابية مجابهة للفكر الزيدي، بل والمذهب الشافعي أيضاً، وعسكرية وحزبية وشخصيات اجتماعية ومشائخ دينيين وقبليين – وبالذات في مناطق الحدود المشتركة – يدينون بالولاء والطاعة للرياض، لتدير بهم اليمن كحديقة خلفية مسوّرة لها، وتعمل على أن يظل اليمن كسيحاً مشلولاً غارقاً في مجاهل الأمية ودهاليز الفقر والصراعات السياسية والقبلية والاجتماعية، وأخيراً المذهبية، ليكون مثل هكذا وضع يمني خـرب مبعث اطمئنان لدوائر الحكم في الرياض على أمنها ومستقبلها، وفقاً للوصية التاريخية التي يُعتقد على نطاق واسع في اليمن والوطن العربي أن مؤسس المملكة الراحل، عبد العزيز آل سعود، أوصى بها بنيه قبل وفاته: “خيـركم وشركم من اليمن… خيركم في أذى اليمن، وشركم في رخائه”.

لا نعرف مدى صحة هذه الوصية، ولكن حتى لو افترضنا عدم صحتها، فالفعل يغنينا عن القول، ليسهل بالتالي التحكم بمصيره – أي اليمن- واستقلالية قراره. ولو كانت المملكة تعرف أن ريالاً واحداً سيذهب لمصلحة بناء دولة مؤسسات، وبناء مدارس وجامعات علمية عصرية، وتأسيس بنية تعليمية شاملة خالية من علل العصر وأسقامه لما أرسلته أبداً. ظلت السعودية تتبع هذه الطريقة إزاء اليمن حتى بعد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين عام 2000م؛ فبالرغم من أن مسألة ترسيم الحدود بين البلدين ظلت تؤرّق المملكة طيلة عقود من الزمن، حتى مع إدراكها أن السطات التي حكمت اليمن منذ عام 62م لا ترى في هذه المسألة أكثر من وسيلة استحلاب مالي وابتزاز ووسيلة ضغط سياسي وسلعة مقايضة عند كل ضائقة مالية وأزمة سياسية تنشأ مع الرياض – والدليل على ذلك إحجامها عن رفع المسألة للتحكيم الدولي -، إلا أنه لم يهدأ للسعودي بال، ولم يطمئن له حال، إلا حين تم التوقيع رسمياً على تسوية تلك المسألة الشائكة في لحظة ضعف يمني – كان اليمن حينها خارجاً لتوه من حرب 94م – بدت فيها عملية التوقيع أقرب إلى عملية البيع والشراء، منها إلى اتفاقية ترسيم حدود دولية منصفة.

كانت المملكة على وشك أن تفعل الشيء نفسه مع مصر مؤخراً، لولا أن لمصر قوى حية ووطنية في الحكم وفي المعارضة وفي الشارع المصري عموماً، أفشلت تلك المساعي (ترسيم الحدود البحرية والتنازل عن جزيرتي صنافر وتيران للسعودية)، برغم الضائقة المالية الخانقة، واستمرار الأزمة السياسية، وتردي الوضع الأمني في البلد.

المملكة، وحتى بعد أن وصل اليمن إلى تخوم الإنهيار ومشارف التشتت، جرّاء الغياب المزمن للدولة المركزية الضابطة لإيقاع الفوضى المتلاحقة، وحتى بعد أن بلغ التهديد الأمني لحدودها – أي المملكة – مبلغه، ما تزال الرياض تتعاطى بنفس الطريقة وبذات الآلية مع القوى اليمنية المختلفة المسترزقة، في الوقت نفسه الذي تعمل فيه على كبح مساعي القوى الوطنية الحقيقية في الشمال والجنوب على السواء، وتمارس عمليات الفساد والإفساد وشراء الذمم والضمائر لمختلف القوى اليمنية، (قبلية، حزبية، سياسية، دينية … أصبحت فنادق الرياض وجدة اليوم متخمة بالمئات من الشخصيات المختلفة الباحثة عن مزيد من التكسب والاسترزاق تحت موائد الأمراء)، هذا علاوة على شروع المملكة في الآونة الأخيرة في بناء وحدات عسكرية وأمنية هي عبارة عن مليشيات وجماعات وكتائب دينية وقبلية، بالتوازي مع إهمال وتهميش ما تبقى من وحدات عسكرية وأمنية نظامية سابقة، على هشاشتها وضعف ولائها الوطني، وللجنوب النصيب الأكبر من هذا العبث.

ومع ذلك، فما زال فينا للأمل فسحة ومكان، ونحن نتساءل بتفاؤل مشوب بالتوجس: هل بعد كل ما جرى ويجري ستنفض المملكة من عباءتها طفيليات الزمن المتسخ، وتعيد النظر في طرق وأدوات سياستها حيال اليمن شمالاً وجنوباً؟ أم أنها ستظل تدير ظهرها للجنوب، وتظل تتعامل معه كأجير وتابع لها في هذه الحرب وبعدها، بعد ربع قرن من مقايضتها لقضيته بموافقة صنعاء على التوقيع على اتفاقية الحدود، مقابل إعادة بعض قياداته مرغمين أذلاء إلى بين يدي خصومهم في صنعاء، إنفاذاً لشروط نظام ما بعد حرب 94م؟ وهل ستدعم فعلاً تسوية يمنية شاملة، تزيح عن اليمن وعنها شبح الإنهيار ورعب الفتنة الطائفية؟ نأمل أن تحدث مثل هكذا مراجعة وتقييم للمواقف، وبوسائل أخلاقية حديثة تُراعى فيها مصالح الجميع كشركاء في الجغرافيا والدين والتاريخ، بعيداً عن أساليب الإفساد التي تنتج مزيداً من “أراجوزات أبو رغال”، وبعيداً عن الشعور بالزهو والتعالي الذي أثبتت السنين مدى عقمه وكارثيته ليس على اليمن شمالاً وجنوباً فقط، بل على المملكة نفسها، بل وقل على أمن المنطقة برمتها.

المصدر: العربي

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى